الثقافة في زمن الانحطاط العربي… !! بقلم: الكاتب الصحفي :مصطفى قطبي.
لم يعد المثقفون في المدن العربية العريقة (موجودين) على صعيد الإبداع والنضال من أجل القضايا الكبيرة ولا من أجل القضايا اليومية للناس، ثمة عدد قليل منهم ما زالوا كذلك ولكن بتحرك فاتر، أحياناً، أحياناً… ينفجر هذا الفتور لديهم في غاضب حار، ولكنه لا يتجاوز جدران رؤوسهم… للأسف، لم يعد لدينا سوى قلة من المثقفين الذين ما زالوا يمارسون ثقافة الرفض والغضب وحمل الرايات الحمراء أو الخضراء أو السوداء، وكأنهم جزء من متحف قديم، مفتوح للتفرج، لا أكثر.
لم يعد المثقفون، كما كان لدينا في عصور سابقة، زمن المستعمر وما بعد المستعمر، لم تعد لدينا القصيدة الكادحة، والقصيدة الثورية، والقصيدة المغطوطة بعرق الناس كانت يومها هناك حالة نهوض سياسي وثقافي يحمل المثقفون مصابيحها جنوداً شجعان غير مبالين بالخوف والسجون والطرد من الوظائف، يقولون إن الوضع الإبداعي مرتبط بالوضع السياسي والاقتصادي، فالظروف المتخلفة تخلق إبداعاً متخلفاً، وثقافة متخلفة، يبدو أننا في العالم العربي نخالف القاعدة، من قبل كان لدينا كتاب كبار ومثقفون كبار وشعراء كبار، وسياسيون كبار، وأوضاع اقتصادية وسياسية متخلفة… كان لدينا مثقف شجاع، وكانت لدينا سلطة ظالمة.
سؤال يطرح نفسه: هل وجود المثقف الشجاع مرتبط بوجود الظلم ؟!
لا أدري، يبدو أن أشياء كثيرة طرأت على مجمل حياتنا، ما زالت حكايات وقصائد وقصص وروايات ومشاهد ووجوه تقدح في ذاكرة الجيل القديم، جميعها تطرح كثيراً من الأسئلة، ولكنها بالتأكيد لن تجد لها إجابات حقيقية لدى المثقف الحالي، ربما يلتفت بعضهم إلى هذه الأسئلة مستغرباً، أو مستنكراً وجودها، وسرعان ما يتجاوزها إلى أشياء أخرى لا علاقة لها بالفكر ووجع الناس وأحلام الوطن، وواقع الأمة، وما يجري في غزة أو العراق أو ليبيا أو سورية أو في أي بقعة من هذا الوطن المحاصر بالكراهية، والموجوع بصمت كثير من الأنظمة.
فاهتمامات المثقف الوطنية والقومية أصبحت باهتة أو مفقودة، ولكي لا يكون لكلامنا صفة التعميم، نقول إن تلك الاهتمامات لم تعد إلا لدى قلة من المثقفين، لدينا الآن المثقف الموظف المنشغل بالارتقاء في وظيفته، والمثقف المنهزم، الذي يتجمد عقله خلف طاولته، والمثقف المهموم بما سيأكل ويشرب ويلبس، والمثقف الذي يمارس الدس والنفاق واجترار أعراض الناس وحياتهم والمثقف المصفق، وما زال لدينا قليل من المثقفين الموجوعين بألم الثقافة، وبألم الأمة الذي يحتفظ بصوته وغضبه وقلقه لنفسه.
من خلال حضوري بعض الندوات الثقافية والسياسية، وحواري مع مثقفين من كل الأنواع التي ذكرتها، أرى أن مساحة الثقافة تقلصت، وعدد المهتمين بالثقافة تقلصوا كمخزون المياه الجوفية في بلادنا، بالرغم من توفر إمكانية الحصول على الهطول الثقافي عبر وسائل عديدة، أسوق مثالاً: مدينة كمدينة الرباط أو الدار البيضاء….، نادراً ما يفوق الحضور في أي ندوة أو أمسية مهما كان نوعها أو مهما كان القائمون عليها المائة بمن فيهم أصدقاء و أقرباء المحاضر، في مرات قليلة، نشهد حضوراً كثيفاً، ليس بسبب اهتمام الناس بالثقافة أو بموضوع الندوة، وبسبب اقتناعهم بالمحاضر، وإنما للتفرج على المحاضر الذي زرعه الإعلام المرئي في عقولهم سواء أكان سياسياً أو شاعراً أو باحثاً، ويخرج الحضور على الغالب وهم يرددون أن تسمع بالمعيد خيراً من أن تراه.
في زماننا تقلصت الثقافة، والمثقفون والحضور والمهتمون بالثقافة، وفاضت المدن العربية بالتجار وبغير المبالين سوى باللباس والأكل، والسيارات والبيوت الفارهة، حتى الأحزاب السياسية تقلصت اهتماماتها وحواراتها ونشراتها السياسية وتقلص المثقفون لتزداد أعداد الراكضين إليها لامتطائها، يبدو أن انحسار المثقفين من تلك الأحزاب، يوفر المناخ لغيرهم للتكاثر فيها خارج المدن العريقة، في القرى التي راحت تجتاحها موجة الحياة الجديدة، انحسرت الحكايات والقصص والعلاقات الاجتماعية وانحسر الفلكلور الأصيل، والقيم الأصيلة في اللباس والغناء و الحديث والعادات والتقاليد…
يأتيني سؤال: ما الذي يختلف فيه إنسان قرية عربية من حيث اهتماماته ورغباته ونزواته وسلوك حياته عن أي إنسان في المدن الكبرى؟ الفضائيات اختصرت المسافة بين رجل المدينة والقرية، بين المرأة في القرية والمدينة، هنا لدينا المرأة التي تحلم أن تكون كأي ممثلة أو مغنية، وهناك في المدينة لدينا المرأة التي تحلم بذلك.
يقول لي صديق: نحن في زمن التشابه في كل شيء، في الشكل واللباس في النميمة والغيبة، وفي نهش الإنسان لأخيه الإنسان، تقلصت الهوية التي كانت ذات يوم عنوان أمة في الكرم والشجاعة والمروءة والحزن والغضب والحب والوطنية، هنا في القرية، في المدن الكبرى العريقة، وفي المدن الجديدة، لم تعد الهوية الأصيلة أكثر من مجرد إسم مجرد ذاكرة، حتى الذاكرة راحت تضمر، وتنوس كشمعة، لن تلبث أن تنطفأ.
في العالم العربي ما زال لدينا بعض الذين تشغلهم الثقافة والوطن، ولكن السمة العجيبة الغريبة لدينا في العالم العربي، كلما ازداد الإنسان ارتقاء في موقعه الوظيفي، وفي موقعه المادي، إلا وأحس بأنه أكثر فهماً وثقافة ونضوجاً وقدرة على فرض الرأي، طبعاً ليس بالحوار يبدو أن الكراسي الأنيقة والطاولات الأنيقة والمكاتب الأنيقة، تمنح أصحابه كل هذا الفهم، طبعاً من غير مطالعة وقراءة ومتابعة آخر الإصدارات، أو قراءة الجرائد، تصوروا، وجود مخزون للماء الجوفي من غير مطر أو روافد مائية، يقول لي صديقي، إنّه السراب الذي يخاله صاحبه ماء.
سأقول لكم بالهمس كلاماً إن عدد الذين يقرؤون وهم في مواقع متقدمة، قليل، هل تريدون معرفة نسبة الذين يقرؤون أو نسبة الذين لا يقرؤون؟
سأترك الإجابة على هذا السؤال للعاملين في الإعلام، علّهم يجرون استبياناً، ولا أستغرب أن يجري هذا الاستبيان من وراء المكاتب، مختصراً الجهد والتعب والعرق والأسئلة والأجوبة ولكنني على يقين، ستأتي نتائج الاستبيان في هذه الحالة إيجابية جداً.