في ذكرى المولد النبوي… العالم الإسلامي يقاسي عصبيات الإرهاب…؟ بقلم : الكاتب الصحفي الكبير : مصطفي قطبي.

تعيش الأمة الإسلامية نفحات الذكرى العطرة لمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي مناسبة تمثل فرصة لهذه الأمة التي تتكالب عليها الأمم كما تتكالب الأكلة على قصعتها، أن تستذكر نهج صاحب المناسبة كخير نموذج يحتذى به على مر العصور والأزمان، فقد باتت منساقة وراء الأكلة المتآمرين عليها بعد أن نجحوا في الإيقاع بها في فخ الطائفية والمذهبية، لتشتيتها وتمزيقها وإضعافها، فغدا الدم العربي والإسلامي هو اللون الذي تروى به أرض العرب والمسلمين.
جاء عيد المولد النبوي الشريف هذا العام، ومعاناة العرب من بين المسلمين تتفاقم وتكبر وتتدحرج وتكبر وهي تتدحرج حتى بلغت درجة غير مسبوقة… وليس مبالغة القول إن الأرض العربية فتحت فاها لأعدائها ومكنتهم ليس من ابتلاع لسانها العربي فحسب، وإنما لينقلوا إليها فيروسات الطائفية وجراثيم المذهبية، وليزرعوا فيها بذور الشقاق والتعصب والعنف والإرهاب، عبر مشارط ”الديمقراطية، والحرية” وحقن ”حقوق الإنسان، والدولة المدنية”.

لقد صنعوا لكل بلد فخاً يكبر ويتسع أو يضيق حسب الحاجة… عرسال للبنان، والأنبار للعراق، وسيناء لمصر، والشعانبي لتونس، وفي سوريا عدد من الأفخاخ… هي تدريب على بؤرة لا يموت فيها الحدث، وقد يهدد دولة بكاملها كما جرى للعراق مثلا حين وظفت منطقة الأنبار في متاهة تدافعت فيها الأمور إلى حد تمدد ”داعش” وصولا إلى العاصمة، لولا استفاقة عراقية أعادت ترتيب الأماكن، تبعتها استفاقة دولية تحاول أن تجعل من هذا التنظيم قميص عثمان قد تعلق عليه سلسلة أحداث مرتبطة به أو غير مرتبطة.
ففي الوقت الذي نجد فيه سوريا غارقة ومغرَقة في مستنقع الدم، ونجد العراق على جناحها الشرقي مهدداً باستمرار ما كان فيه قبل يومها وبتوالد ما يتوالد فيها من فتنة وبؤس، ونجد لبنان مهدداً بنار الفتنة المذهبية وما يتهدد سوريا منها يتهدده فالبيت واحد لكنه بغرفتين… في هذا الوقت نجد مصر تُجر نحو المستنقع العفن بقوة جذب شديدة، وتلعب في ملاعبها أقطار عربية وبلدان أجنبية، وفئات ذات أغراض وارتباطات ومآرب شتى… ونجدها مهددة ـ لا سمح الله ـ بأمر مقارب لذلك الذي يتم في سوريا، مع خلافات واختلافات في التحالفات والأهداف والوسائل والأدوات… ونلحظ اللاعبين العرب المعنيين في الساحة المصرية على هيئة مشجعي ”أهلي وزمالك”، فإما مالك وإما هالك؟! وعلى جناح مصر العزيزة، وعند مفرقها الإفريقي لا تزال النار تحرق ليبيا التي تفككت أو كادت، ودم أبنائها ما انفك يسيل…
لن يكون بوسع أحد أن يحاجج في حالة التمزق التي تعصف بالعالمين العربي والإسلامي في وقتنا الراهن، والمحاولات المشبوهة لجر الإسلام إلى فتنة كبرى جديدة وجعله أداة أيديولوجية طيعة لخدمة المشاريع الاستعمارية والأطلسية لنخبة المحافظين الجدد، والأزمة الاقتصادية في الغرب، بعد أن كان الإسلام ورجالاته رواد مرحلة التحرر من التبعية للأجنبي والخلاص من الاستعمار.
لقد أصبحت الأمة الإسلامية في عصرنا الحاضر غثاء كغثاء السيل، لقد تمزّق شملها وتشتت صفها، وطمع فيها الضعيف قبل القوي، والذليل قبل العزيز، والقاصي قبل الداني وأصبحت قصعة مستباحة بعدما كانت تقود العالم، ورسولها الكريم صلى الله عليه وسلم، أرسله الله رحمة للعالمين وللناس أجمعين، بدليل قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
والآن نراها قد أصبحت ضعيفة لأن الفرقة قرينة للضعف والخذلان والضياع…
اليوم تطرح مشاريع مذهبية من النوع التفتيتي، فلقد نضبت تقريباً سلة التآمر الصهيوني على الأمة، وبقيت لعبة واحدة يدور رحاها على العقل الإسلامي: كيف نفتت المسلمين وكيف نجعلهم مجموعات متناحرة وعلى مدى سنوات طويلة، بل كيف نحولهم إلى قطعان تأتمر بأوامر إسرائيل، يحركهم ريموت كونترول صهيوني، يتزعمهم، يصنع لهم الهدف كي يحصد النتيجة… يقدم لهم حكمته الخاصة كونهم مسلمين من نوع الضحك على الذقون، يرفع أمام عقول جيلهم الصغير بتجربته
ورغم وضوح زوايا الحقيقة حول الدور الصهيوني وامتطائه أنظمة وجماعاتٍ وأحزاباً، وتقنعه بأقنعة الكذب والنفاق، فإن هناك من لا يزال مصاباً بالعدوى ويرفض أخذ الأمصال والتخلص من الداء، بل إنه يرى في هذه الأدواء العضال سبباً في نيله الخاتمة التي يتوهم أنه سينالها بسلوكه مسالك الإرهاب والعنف التي يزينها له شياطين الإنس على أنها ”جهاد” ينقله إلى مصاف الأنبياء والصديقين وجنات الحور العين…

وفق هذا التقدير، فإن هذا النجاح لمعسكر التآمر والتخريب بقيادة القوى الاستعمارية والامبريالية في بعثرة دول المنطقة وتشتيت شعوبها وتقسيمها إلى طوائف ومذاهب متصارعة متواجهة، دفع المنطقة إلى حفلة جنون كاملة يرقص المحتفلون فيها على أنهار الدماء البريئة المسفوكة عدواناً وظلماً وعلى جثث الأبرياء، ويتاجرون في الموت والقتل، ويطلقون صيحاتهم وتغريداتهم فرحاً وطرباً ”دعهم يتقاتلون، يتناحرون، وما علينا سوى التلذذ بمشاهد الذبح ومسيل الدماء”.

فمتى يا ترى نرتاح من صبيب الدم وألوان وحشية الجُرم والإثم، ومتى نثوب إلى رشدنا فنرى ما صنعت أيدينا في الناس والوطن والعِمران، ومتى نتبصر بما ألحقناه بأنفسنا من عار ودمار كان يطلبهما عدونا فينا فلا يستطيع، وكأن أن نفذنا له ما يحلم به بأداء فريد وعزمٍ من حديد؟!

ألا متى نرى أنفسنا وأوضاعنا وأوجاعنا على حقيقتها فنكف عن الفتك والهتك ونفكر بتغيير الأحوال ونبصر ما تحت الجمر من نار إن لم نتدارك شررها فستأتي على ما تبقى منا جميعاً… والنذر في سورية وفي العراق ولبنان ومصر وتونس وليبيا واليمن، أوضح من أن تُشرح، وأفصح من أن تُعرب…

وما يبذر في الأرض اليوم من بذر الشوم سيتفتح عن وجوه للفتنة يعجز عن لملمتها الوعي والطيب من الإرادات والحسن من النيات، ذلك لأن انفجار العقل بالشر أشد فتكاً بالعباد والبلاد من شرر كالقصر، وحين تدب جنادب الفتنة المذهبية في الأنفس والدروب، يقتل الجارُ جاره والحِبُّ حِبَّه، وتتحجر القلوب، وتنطوي على ما فيها من حقد يفرخ إرهاباً ورعباً…

ويمكن للمتبصر أن يقرأه أو يراه اليوم في سياسات قصيرة النظر يعبر عنها ساسة أبالسة، بعباراتٍ مثيرة للمشاعر والذواكر وخطيرة، تفضح نفوساً أفعوانية تنطوي على الجهل بالحكم وأصوله وأسسه ومسؤولياته، وتنم عن الكراهية في تعابير دواهية، وتؤسس لصراعات مذهبية مقيتة بدأت نارها تعس هنا وهناك، وهي إن علا دخانها وثار أوارها لن تبقي ولن تذر، لا ممن ”ينتصر منا ولا ممن ينكسر”؟!

ونحن نلمس مثل ذلك ”الإنجاز المعجز؟!” في الفعل السياسي وخطابه العملياتي الذي يعبر عن نفسه في الاقتتال والملاحقة والتعذيب والاتهام والمحو والاجتثاث، وفي إنكار حق الناس المواطنين في معالجة شؤونهم وشؤون غيرهم من شركائهم في الوطن والقرار والمصير، مع من يتولى التدبير فيتصدى لكل من لا يروق له رأيه وموقفه وقوله وكأنه القدر المقدور والمصير؟! ونلمسه أيضاً في خطاب دعاةٍ ليسوا فقهاء ولا أمناء على الفقه إن هم فقهوا ولا رعاة للحق والدين ولا دعاة…

يتاجرون بالدين والقيم والبشر وبالجنة والنار وبالشهداء الأبرار، وأخطر ما نلمسه من ذلك في إعلام ذي آفات وأفانين افتراء، يتوالد من أدائه الداء، ويتكاثف بسببه في سماء العقول وطيات القلوب ظلم وقسوة وظلمات.

إن الأمور واضحة ولكن من لا يدافع عن حقه يخسر حقه ومن ثم نفسه… وهذا هو شأننا نحن المسلمون اليوم مع كثير من حقوقنا ومقومات وجودنا وقوتنا وهويتنا وحضارتنا.

وإذا توقفنا اليوم عند محنتنا في القدس ومحنتها معنا… وجدنا أنها تقضم متراً بعد متر وبيتاً بعد بيت، وقد وصل القضم الصهيوني حد التخطيط لتقسيم المسجد الأقصى ذاته، والتجرؤ على كل مقدس ومُلك ومواطن وحقيقة تاريخية، وشجرة يقتات منها الفلسطيني في ظل عجز عربي مقيم، وتنافر عربي لا يستقيم لهم معه أمر، ومن أسى أنهم أشداء على بعضهم ومغلولة إرادتهم ضد أعدائهم لأسباب تعود إلى انعدام الثقة، وإدمان التبعية والاستعداء… استعداء الأخ على الأخ، والغريب على القريب… والوقائع التي تشير إلى ذلك في تاريخنا أكثر من أن تحصى، وما نعانيه اليوم من ذلك يفوق الوصف.
اليوم، لا يواجه العالم الإسلامي هجمة خارجية عاتية ومهددة فحسب، بل الأنكى من ذلك أنه يشهد صراعات زعامات لن تنتهي في الواقع الراهن إلا إلى المزيد من التفكك والتبعية والارتهان، فهناك من يتطلع إلى وضع الدول العربية ملفاً قائماً بذاته في محاولة مشبوهة ومريعة لإعادة ترتيب الأولويات، وهناك من يغذي طموحاته السياسية الداخلية والمتوسطية الخارجية عبر إطلاق موجة كراهية مقيتة وحاقدة لا تتورع عن إعادة تصنيف المسلمين وفقاً للملل والنحل، للوصول من ذلك إلى حق حصري بتوزيع شهادات الإيمان، يمارس هؤلاء التكفير الديني والمذهبي في الطريق إلى التكفير السياسي ويتحدثون مع ذلك عن تهويد الأقصى وحرمة الدم في الإسلام.
وحكمة المسلمين في كل هذا مغيبة أو غائبة، فأهلها بين حليم يخاف أن ينطق، وحكيم ابتلع سم السياسة ومالها فغص ويسكت، ومسؤول في مرتبة روحية عليا، يختار الاعتكاف في وقت الحاجة إليه، ويرى أن يغيب في العزلة أو الاعتزال، أي في ”نسك تصوفي سلبي” خير منه المواجهة بقوة العقل والقلب والإيمان وصلابة الصوفيين في الأزمات الطاحنات والملمات الكبار… ومن بين أهل الحكمة وكبار الرجال من يتفرقون شذر مذر، ويقفون على ضفاف الخلاف، لا يجمعهم جامع فيقويهم ولا يشدهم إلى الإيمان بالله جل وعلا ما يجعلهم حرباً على الفتنة وأهلها.
ولأننا أصبحنا لا نتقن إلا فن الكلام والاحتفال بالمناسبات دون أن نقرأها ونفهم دروسها، انتصر الآخرون علينا في كل شيء، ولأننا لم نعمل بالحكمة القائلة (المثل العليا لن تستطيع أن تلمسها بيديك ولكنك كالمقاديم من البحارة تتخذها مرشداً لك وتتبعها فتبلغ غايتك)، لم نتمكن من التحرك إلى الأمام خطوة واحدة، فلا نحن تمسكنا بمبادئنا وقيمنا وأصول ديننا، ولا نحن أخذنا بأسباب القوة والعلوم والإنجازات والتطور الذي تشهده دول وشعوب العالم، فبقينا أسرى للجهل والتخلف وصرنا مضغة للأعداء والطامعين، ولم تعد لنا أية إسهامات وإضافات على الحضارة العالمية في إنتاجها العلمي والمعرفي والثقافي والصناعي والغذائي.

وكالعادة هناك كثرة من أبناء الأمة تتفرج وكثرة من الضحايا يسقطون، وهناك من ينغمس في الصراع، والأمة تضعف وأعداؤها يتسلطون عليها ويبتزونها ويستفيدون من ضعفها ويستثمرون في الصراعات التي تدور داخلها، ثم يمزقونها تمزيقاً ومع ذلك لا تجد من معتبر؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى